نعلم جميعا ان الجسم هو المعبر الأول عن واقعة وجودنا في هذا العالم ، وله دلالات عديدة ومتعددة تساعد علي التواصل بيننا وبين الآخرين ، أذاً ما هو تحديدا وتفصيلا دور ( الجسم ) في عملية التمثيل؟ يقوم بدراسة هذه الدلالات ما يعرف ( بلغة الجسد ) وهي دراسات هامة أنصح الممثل بالقراءة فيها.
وكذلك ملاحظتها بدقة في الحياة من حوله ، وعند مختلف الأشخاص المحيطين به. ان حضور الممثل بجسمه هو الواقعة الأولي في عملية التمثيل ، حضور الممثل بجسمه إمام الكاميرا او علي خشبة المسرح . ان جسم الممثل هو ما يعطي التمثيل وجوده ومعناه.
فالسرد والحكي لا يصنع تمثيلا ، فالاساس هنا هو الفعل كما تعبر عنه الكلمة الإنجليزية. وليس هناك فعل دون جسم يقوم بهذا الفعل ، وكذلك لا تتحقق الشخصية الدرامية إلا بتحقق التواجد الجسمي للممثل تمثيلا وتشخيصا لها. ومن ناحية أخري نجد أن للجسم دور هام في عملية التمثيل نفسها.
وهو دور هام و معقد في نفس الوقت ، هو دور ايحائي ، أي يوحي بمعناه ولا يصرح به ، كذلك لا يمكن أن يكون مجانيا. أي غير مقصود ، فكل ما يراه المتفرج من جسم الممثل يوحي له بدلالة ما او بمعني ما ، حتي وإن كان غير مقصود ، وأخيرا قد يأتي هذا الدور موازيا ومصاحبا للكلام او ياتي منفصلا عنه فيما يعرف بالمشاهد او اللقطات الصامتة.
يمكن تقسيم دور الجسم في عملية التمثيل إلي محورين :
- الأول : وهو دور الجسم في الإيحاء او الإرسال .
- الثاني : هو دور الجسم في مساعدة الممثل علي استحضار حالة شعورية .
وينقسم دور الجسم في الإيحاء إلي :
- الشكل او الهيئة
- الوضع
- الحركة
وهي جميعا متداخلة ومتشابكة والفصل بينها هنا بهدف الدراسة فقط. اما دور الجسم في مساعدة الممثل علي استحضار حالة شعورية ، وهو الإسهام الهام للمدرسة السلوكية في علم النفس ، وقد كان شعارهم ( نحن لا نجري لأننا نخاف ، وإنما نخاف لأننا نجري ).
فهو يتحدد من خلال : وضع الجسم – اتجاه الجسم – وضع الفك – التنفس – إفراز اللعاب – شكل العينين ، وهو ما يصعب شرحه هنا ، ولذا سيقتصر حديثنا علي المحور الأول فقط .
اولا : شكل او هيئة الجسم
ان لنا جميعا أجسام تتحكم في أشكالها وهيئتها المكونات الوراثية او الجينات ، وتشمل الوزن والطول وملامح الوجه ولون العينين والشعر وغيرها ، أنها أجسامنا ولن يكون لنا اجساما غيرها ، بالطبع يمكن محاولة تغييرها في حدود.
عن طريق إنقاص او زيادة الوزن او ممارسة الرياضة او تغيير لون الشعر او العينين ، او بالمكياج او حتي بعمليات التجميل التي تطورت كثيرا هذه الأيام.
وإذا كنا غير مسئولين عن شكل أجسامنا فإننا بشكل او آخر نعد مسئولين عن موقفنا الفكري والشعوري تجاه أجسامنا هذه ، سواء بالقبول أو الرفض ، بالمصالحة معها او النفور منها. وبشكل عام يساعد الموقف الإيجابي منا تجاه أجسامنا في تحقيق المصالحة مع ذواتنا.
وهي حالة تساعد كثيرا في تحقيق ما نصبوا اليه في حياتنا ، هذه الحالة من المصالحة مع الجسم ، ربما تكون ضرورية للممثل أكثر منها بالنسبة لأي شخص آخر. شكل الجسم بين الحياة والتمثيل : في الحياة ليس ضروريا ان تتناسب أشكال الأجسام مع الطباع والصفات النفسية.
فالقول الشائع سماتهم علي وجوههم لا يصدق كثيرا في الحياة ، هناك من نرتاح إلي أشكالهم في البداية ، وآخرين ننفر منهم ، أشكال توحي بالطيبة والسماحة ، واخري توحي بالشر والقسوة ، ولكننا في الحياة لا نتوقف كثيرا عند هذا الانطباع الاول.
فسرعان ما نكتشف خطأ انطباعنا هذا او نؤكده بمعرفة الشخص أكثر والاقتراب منه ، فيتحول الشكل الذي يوحي بالقسوة إلي إنسان وديع ومسالم أوالعكس. ولكن يبدو اننا في عالم التمثيل والدراما ، نتمسك بهذا القول الشائع سماتهم علي وجوههم.
ولا نتجاوز الانطباع الاول عن أشكال البشر إلا في حالات نادرة ، فالشرير لابد أن يوحي شكله وملامح وجهه منذ البداية بالشر والعكس وكذلك المرأة اللعوب او البريئة الرومانسية الخ ( إلا إذا أراد المؤلف او المخرج عمل تناقض مقصود ومبرر بين الشكل وسمات الشخصية ).
عالم التمثيل إذن يعتمد بشكل أساسي علي ما يسمي ( التنميط ) وعلي ذلك يمكن القول أن شكل جسم الممثل وملامح وجهه هي التي تحدد في البداية علي الاقل ، طبيعة الأدوار التي يمكن أن يوظف فيها ، أي أن الممثل يتم تسكينه اولا من حيث الشكل في الدور المناسب لهذا الشكل.
وهو ما يعرف بالكاستنج ، وتاتي بعد ذلك قدرته علي أداء هذا الدور بمهارة أو لا ، لذا لا يستطيع الممثل مهما بلغت قدراته تمثيل جميع الأدوار علي خلاف الفكرة الشائعة. وأخيرا أقول أن علي الممثل ان يتصالح اولا مع شكل جسمه وهيئته أيا كانت.
ثم عليه ثانيا ان يتخلي عن فكرة انه قادر علي أداء أي دور ، ثم اخيرا ( خاصة اذا كان في بدايه عمله بالمهنة ) ان يعي ويعرف جيدا الانطباعات المحتمله لشكل جسمه وملامح وجهه ومحاولة تأكيد هذه الانطباعات ( بتغير الشعر والشنب والدقن والمكياج وغيرها ) ان هذا يمكن أن يساعده كثيرا في إيجاد الفرصة التي يحلم بها.
ثانيا : وضع الجسم
ان اوضاع الجسم في الحياة تبدو تلقائية وغير مقصودة ، وإن كانت لها دلالات تحاول تفسيرها دراسات ما يسمي ( لغة الجسد ) وهي دراسات هامة للممثل ، أما هذه الأوضاع في عملية التمثيل فهي مقصود اليها ، وليست مجانية ، وإن كانت لابد وأن تبدو تلقائية.
ان وضع الجسم في عملية التمثيل ، وهو وضع قد يكون واقفا او جالسا او راكعا او مستلقيا او نائما او غير ذلك ، هو وضع لا يعني السكون التام ، هو سكون نسبي ، فهناك دائما فعل ما يحدث وهو فعل داخلي ، كأن تكون الشخصية منفعلة او تتأمل او تفكر او تتذكر او حتي تستمع إلي ما يقوله الآخر.
او غير ذلك ، هذا الفعل الداخلي ينعكس بالضرورة علي وضع الجسم الذي يبدو في الظاهر ساكنا. ووضع الجسم في عملية التمثيل يشمل وضع الذراعين والساقين والقدمين وكذلك وضع الرأس ، واختلاف هذه الأوضاع يعطي إيحاءات او دلالات مختلفة فقد يوحي بالحالة الانفعالية او المزاجية الآنية.
وكذلك سمات الشخصية وطبقتها الاجتماعية ( ان وقفة او جلسة الشخص الفقير المجهد من كثرة العمل لابد وان تختلف عن وقفة او جلسة الغني المرفه الذي يحس بالملل لأنه لا يجد شيئا يفعله ، وكذلك المرأة اللعوب تختلف في وضع وشكل جلستها عن الفتاة البريئة الساذجة ).
وأخيرا الحالة الجسمية من مرض او عجز مثلا. ونحن تصلنا هذه الايحاءات من الوهلة الأولي وبشكل غير مباشر ، وعلي الممثل ان يكون علي وعي بهذه الدلالات لوضع جسمه وان يمتلك المرونة الكافية لتنفيذها بدقة وتلقائية. إن الممثل قد يكون بمفرده او مع آخرين.
وفي هذه الحالة توحي اوضاع الأجسام بعلاقات القوة والضعف ، او الود والنفور او غيرها ، ان هناك في الحياة ما يسمي ( المساحة الشخصية ) وهي المساحة او الفراغ المحيط بكل منا ، والذي نسمح او لا نسمح للآخرين باختراقه والاقتراب منا ، تبعا لنوع العلاقة بيننا وبينهم.
هذه المساحة تختلف في عملية التمثيل عما هي في الحياة ويحكمها عوامل مختلفة من أهمها حجم الكادر ، فأحيانا تكون اقل كثيرا عما هي في الحياة.
إن وضع الممثل داخل الكادر او علي خشبة المسرح يكون في معظم الاحيان مواجها للكاميرا او لجمهور المتفرجين ، كذلك نجد بعض الأوضاع التي لا توجد في الحياة ، كأن يقف ممثل خلف كتف ممثل آخر وهو يتحدث اليه.
وغير ذلك. وأخيرا نقول ان اوضاع الممثل او الممثلين داخل الكادر او علي خشبة المسرح يحددها المخرج وهو يتبع في ذلك معايير جمالية خاصة بالتكوين والتوازن.
من ناحية وفهمه ورؤيته لدراما النص من ناحية أخري . إلا أن المخرج لايحدد بدقة كيف يقف الممثل او كيف يجلس ، فهي مهمة الممثل في اغلب الاحيان.
ثالثا : حركة الجسم
يمكن تعريف حركة الجسم بشكل عام بأنها الانتقال لشغل حيز مختلف من الفراغ ، وهي لذلك ترتبط بالزمن ، والزمن يعني ضمنيا إيقاع ما.
نحن جميعا نتحرك بأجسامنا في الحياة دون أن نعلم كيف يتم ذلك ، في الحقيقة هناك نظام معقدة للغاية يمكن الإنسان من أداء وتنفيذ مختلف الحركات ، يشترك في هذا النظام كل من الهيكل العظمي والجهاز العضلي والعصبي ، بالإضافة إلي دور الأذن في حفظ توازن الجسم.
وكذلك دور المخ في الإشراف وإصدار أوامر التنفيذ . وللحركة بشكل عام قوانين فيزيائية تتحكم بها ، وحركة الجسم البشري تخضع بالضرورة لهذه القوانين ، فالجسم أثناء المشي او الجري يخضع لقانون نقل مركز الثقل.
وكذلك لقانون الجاذبية أثناء الوقوف او الجلوس او السقوط مثلا وغير ذلك. تختلف الحركة في التمثيل عنها في الحياة ، فالحركة في الحياة عفوية وتلقائية وقطعا غير معدة مسبقا وتأتي بايحاء اللحظة وهي في الغالب ذات دافع نفعي او نفسي او غريزي وتبدو غير مقصود اليها بمعني أنها قد تأتي علي أشكال مختلفة.
أما الحركة في عملية التمثيل فهي مقصود اليها ومعدة ومحددة الشكل مسبقا وقد قام الممثل بعمل تدريبات او بروفات عليها حتي حفظها تماما.
ومع ذلك لابد وان تبدو تلقائية وطبيعية تماما. تعد الحركة من أهم وسائل التعبير المرئي في عملية التمثيل وقد تأتي مصاحبة للكلام او منفصلة عنه ، وهي حين ترتبط بالكلام تصبح موازية له موضحة لمعناه أحيانا ، وأحيانا اخري مناقضه له ومعارضة.
وحركة الجسم تنقسم إلي :
- حركة واسعة : وتكون بكامل الجسم كالوقوف او الجلوس او المشي والجري وكذلك الاستلقاء والسقوط واستدارة الجسم تجاه الممثل الآخر او بعيدا عنه ، وهي الحركة التي يحددها المخرج وتعرف بما يسمي ( الميزانسين )
- حركة ضيقة : وتكون بجزء من الجسم مثل حركة الذراعين والكفين وكذلك الساقين والرأس وحركة عضلات الوجه والعينين ، وهي الحركة التي يحددها الممثل بنفسه في معظم الأحيان ، وهي دائما قابله للايحاء حتي وإن كانت غير مقصودة.
وحركة الممثل سواء أكانت واسعة او ضيقة لابد وان يكون لها دوافع ومبررات ، بعضها درامي او شعوري نابع من الشخصية الدرامية ، وبعضها الآخر نفعي او جمالي ، والافضل بالطبع اجتماع هذه الدوافع معا ، وهي توحي للمتفرج في النهاية بمعني ما.
وتعبر بشكل غير مباشر عن المقصود منها. يخبر المخرج الممثل بالحركة المطلوب منه تنفيذها سواء علي خشبة المسرح او امام الكاميرا ( أحيانا يطلب منه ان يتوقف رغم انفعاله عند علامة معينة موضوعة علي الارض وهي تحدد في الغالب منطقة الإضاءة او حدود الكادر.
وعلي الممثل تنفيذ هذه الحركة بتلقائية ودون إزاحة ودون النظر إلي العلامة بشكل مباشر ) ومن المفترض أن يخبره كذلك بالدافع إلي هذه الحركة تحديدا.
ولكنه لن يخبره قطعا بكيفية تنفيذها او بما يمكن ان يسمي بإيقاع تنفيذ الحركة ، فعلي الممثل اكتشاف هذا الإيقاع بنفسه ( لكل شخصية درامية إيقاع حركي خاص بها تبعا للسن والحالة الصحية والانفعالية وكذلك الطبقة الاجتماعية وغير ذلك )
وفيما يلي بعض نماذج الحركة الضيقة للممثل ولكل منها ايحاء او دلالة مختلفة وعلي الممثل الوعي بكيفية توظيفها :
- الإشارة :
وهي باليد او الذراع ، وهي غالبا ذات دلالة عامة وتستخدم في الحياة ، وقد تعني الرفض او التحذير او التحية او الطرد او غير ذلك.
- الايماءة :
وتكون بحركة الرأس وتستخدم أيضا في الحياة ، وذات دلالات متعارف عليها ، وقد تعني الموافقة او الرفض او التعجب او الانكسار وغيرها.
- الاشاحة :
وهي حركة خاصة بالتمثيل ولا دلالة عامة لها في الحياة ، وتكون بحركة الرأس أو العينين بعيدا عن الممثل الآخر ، وهي تعني لحظة للشخصية مع نفسها للتفكير واستيعاب الأمر او للتذكر وقد توحي أيضا بعدم الاهتمام ، وهي عكس الالتفات إلي الممثل الاخر ، التي قد تعني الاهتمام به او بما يقول.
- نماذج اخري :
قد يعني التوقف المفاجيء عن استكمال الحركة تعبيرا عن رد فعل الشخصية لما هو غير متوقع. حركة استخدام الاكسسوار الشخصي كالنظارة او السيجارة او القلم مثلا أو غير ذلك ، قد توحي بالكثير عن الشخصية وحالتها الشعورية.
حركة فعل أشياء كقيادة سيارة او وضع مكياج او حلاقة ذقن او غير ذلك ، لها دلالات واضحة وتجعل التمثيل مشابه اكثر للحياة بتفصيلاتها المختلفة.
وأخيرا قد تتدخل حركة الكاميرا وحجم الكادر في تحديد إيقاع وشكل حركة الممثل ، فالحركة داخل الكادر تبدو بشكل عام أسرع مما هي عليه في الواقع.
خاصة في اللقطات القريبة ، بما يفرض علي الممثل إيقاعا ابطئ قليلا من ايقاع نفس الحركة في الحياة.
كذلك قد تتدخل تقنيات التصوير في تحديد شكل الحركة النهائي علي شاشة العرض وذلك بجعل حركة الممثل ابطئ او أسرع كثيرا مما هي عليه أثناء التصوير وذلك عن طريق ما يعرف بالحركة البطيئة او الحركة السريعة.
بقلم الأستاذ الدكتور / محمد عبد الهادى